سوسيولوجيا العنف الجنسي ومحاضن التنشئة الاجتماعية أزمة قيم أم قيم الأزمة..؟

هيئة التحرير21 أغسطس 2025
سوسيولوجيا العنف الجنسي ومحاضن التنشئة الاجتماعية أزمة قيم أم قيم الأزمة..؟

بقلم : ذ. محمد أغياي باحث في سوسيولوجيا الجريمة والانحراف مهتم بقضايا حماية الطفولة

تعرف محاضن التنشئة الاجتماعية على أنها نسق من المؤسسات أو الجماعات التي تقوم بعملية تنشئة الفرد وضبط وتنظيم علاقته بالأفراد والجماعات، وإذا كانت محاضن التنشئة الاجتماعية تعمل في تناغم لتحقيق الاستقرار الاجتماعي ونقل الثقافة فإنها في ذات الوقت قد تكون ساحة صراع على الهيمنة أو إعادة إنتاج لعلاقات القوة والعنف الرمزي؛ كما تركز على الفرد وذاته من خلال التفاعل داخل هذه المحاضن.
واذا كانت هذه المحاضن ( الأسرة – المدرسة-الاعلام – المجتمع المدني – المخيم – المسجد – الأقران…) تضطلع كذلك بأدوار أساسية في تشكيل سلوكات الأفراد و في نقل القيم والمعايير المحددة من طرف المجتمع فان السلوك الاجتماعي ينصب على دراسة السلوكيات والتفاعلات الاجتماعية التي تعتمل في علاقة الفرد بالمجتمع ، كما تركز محاضن التنشئة الاجتماعية على تعزيز القيم والمهارات الاجتماعية التي تعتبر أساسية لبناء مجتمع قوي ومستدام و فهم كيفية تفاعل الأفراد والمجموعات في المجتمع، وكيفية تأثير السياقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في انحراف سلوك الفرد عن المعايير الاجتماعية.
ولأن المجتمع يتغير باستمرار فمن الطبيعي والضروري أن تتغير منظومة القيم، ولأن “المجتمع لا يوضع في صندوق ثلج” حسب قول الباحث الأمريكي ” ديل اكلمان”، فالمجتمع المغربي متحرك ومتغير وما يحدث الآن في محاضن التنشئة الاجتماعية يتجاوزنا ويسبقنا اذ دائما هناك مياه تجري تحت الجسر ولا يمكن أن نستحم في النهر مرتين..
ومن صميم مهامنا كباحثين ومهتمين تربويين ومن منطلق البحث السوسيولوجي مساءلة جدلية التغير الاجتماعي وثبات القيم وكيف للمجتمع المغربي أن يمتص هذا التدفق الهائل للأحداث والمتغيرات وافتحاص شروط انتاج وإعادة انتاج الوقائع الاجتماعية، واقع متحرك بالمخاطر والوقائع الاجتماعية الفردية والجماعية تحتم طرح أسئلة.. لماذا؟ كيف؟ بأي كم؟ كيف يمكن أن يفهم المجتمع المغربي ذاته في انتاج التغيير والتحول القيمي؟
ما حدث “بموسم مولاي عبد الله أمغار” وبأحد “المخيمات الصيفية التربوية” ليست بأحداث فردية معزولة وانما وقائع اجتماعية تعكس انحرافا جمعيا عن المنظومة القيمية وعن والمعايير الاجتماعية؛ وتعكس تآكل محاضن التنشئة الاجتماعية وقابليتها لإعادة انتاج بنيوي للعنف خاصة “العنف الجنسي” المتكرر عبر متغيرات الزمن والمكان والجاني ليوصم الضحية بوصم فردي وجمعي رمزي.
ويقدم المنظور السوسيولوجي للعنف الجنسي تحليلاً عميقاً ومتقدما يتجاوز التحليل النفسي والقانوني للمشكلة، حيث ينظر إليها كظاهرة اجتماعية منظمة وليست مجرد أفعال منعزلة لأفراد بسلوكات منحرفة تصل الى حد الفعل الجرمي.
وبالتحليل السوسيولوجي للواقعتين تتبادر التساؤلات التالية: ما هي البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تخلق بيئة خصبة للعنف الجنسي؟ كيف يتم التطبيع مع هذا العنف أو التستر عليه؟ ولماذا يستهدف فئات معينة أكثر من غيرها؟
ان ما يعتمل داخل محاضن التنشئة الاجتماعية من تآكل لأدوارها و وظائفها يجعل الطفل/القاصركفاعل اجتماعي Acteur social ضحية العنف الجنسي هو بالأساس طفل ضحية قهر و عنف رمزي أو مادي و نسوق هنا مفهوم الحقل عند “بيير بورديو” حيث يمارس على الطفل تعسف و عنف رمزي تشرعنه القوانين و التقاليد يعترف به المجتمع دون أن يدركوا ظلمه و فداحته، ويبقى الطفل في وضعية هشاشة و عديم الحماية رغم اختلاف وضعياته و انتماءاته الاجتماعية، نردف هنا كعامل أساس الهيمنة الذكورية و ثبات البنيات الأسرية المبنية على الرقابة و تحول الأسرة لمؤسسة بيولوجية و تفكك أدوارها و ذلك لكشف بعض السمات الخفية داخل المجتمع المغربي من خلال التمييز الرمزي بين الذكور و الاناث و التقسيم الجنسي في العديد من المؤسسات بدأ بالأسرة الى المدرسة فالمخيم..
رمزيا؛ فواقعتي العنف الجنسي بموسم مولاي عبدالله أمغار ومخيم رأس الماء و منسوب العنف و العنف المضاد ليس حدثا فرديا أو معزولا، فالمجتمع يعيد انتاج هذا النوع من العنف و الهيمنة عبر العنف الرمزي الذي يتم اخفاؤه بالجهل الجماعي و بالطرق الرمزية للاتصال و القيم و المعايير و المعرقة المدمجة في العقول و الأجساد بطرق لا شعورية.
ان واقعة العنف الجنسي ليست واحدة لكل الضحايا حيث تتقاطع هويات متعددة (النوع الاجتماعي، العرق، الطبقة الاجتماعية، الهجرة، الإعاقة) لتخلق أشكالاً فريدة ومكثفة من العنف ودوائر متسعة لإعادة انتاج واستدماج تمظهرات أخرى لعنف مضاد سواء كان رمزيا أو ماديا (عنف نفسي – جسدي – جنسي – اهمال -رقمي).
وحسب مفهوم الاختلال المعياري فالظواهر الاجتماعية كالانحراف والجريمة ومعها العنف الجنسي هي مشكلات تنشأ في ظل النظام الاجتماعي والقيم الثقافية السائدة أي انها نتاج “الأنومي Anomie”اميل دوركايم” الناتج عن الصراع بين الوسائل التي تقرها القواعد والنظم الاجتماعية وبين الأهداف المفضلة ثقافيا وليست وقائع معزولة عن وعي الأفراد والجماعات، دون أن نغفل التدفق التكنولوجي الذي افرز لنا سياقا بمعنى جديد هو تحول الكائن الاجتماعي الى “كائن رقمي être digital”.
وبالتالي هل سنستقرئ و نفسر ما يعتمل في مجتمعنا المغربي حاليا بنفس الأطر النظرية و المناهج و البراديغمات التي تمت بها قراءة المجتمع سابقا؟ المؤكد أن الانحراف والجريمة قبلا ليست هي اليوم حيث يعتمل واقع جديد في محاضن التنشئة الاجتماعية و في المجتمع، حيث صرنا محتاجين- ليس كوصفة سحرية- و أكثر من أي وقت مضى لما يلي:
-التفكير خارج الصنوق
-غربلة كبيرة
-باراديغمات جديدة مضادة؛ لاستقراء وتفسير الوقائع الاجتماعية
-فرق بحثية وعلمية ومسوح للظاهرة
-إيجاد صيغ لاستفادة التكوينات والتداريب والمخيمات من الدراسات السوسيولوجية والأنتروبولوجية وإخراجها من الرفوف (البحث العلمي)
-مصالحة بين صانع القرار والجماعات العلمية والفاعلين التربويين
-انفتاح حقيقي لمؤسسة المخيم وباقي محاضن التنشئة على مؤسسات ومراكز البحث العلمي
-تحديث وتجديد مناهج أهداف ومعارف التكوينات في مؤسسات الشباب
-تضمين محتوى التداريب والتكوينات لمصوغات ومضامين تعنى بآليات الحماية الذاتية للأطفال من مختلف أشكال العنف بما فيها العنف الجنسي
-تبويئ مجال الصحة والسلامة النفسية للطفولة والشباب مكانة مركزية وأساسية بخصوص التكوينات والتداريب والمخيمات
-ترافع حقيقي لتحديث المنظومة القانونية الموجهة لتنظيم وتدبير وتنشيط مؤسسات الشباب
-تأطير حقيقي ومواكبة فعالة لنزوح الشباب للعالم الافتراضي ولآثار تقنيات التواصل Tendance lourde على الشباب
-جعل المخيم وباقي فضاءات الشباب مرفقا عموميا مستداما
-التفكير في هندسة بيداغوجية تستوعب وتستجيب لانتظارات الطفولة والشباب
– العمل على تعزيز العدالة المجالية ومقاربة النوع بخصوص الاستفادة من التداريب والمخيمات
وكخلاصة؛ وأمام استقالة العديد من محاضن التنشئة الاجتماعية واضمحلال وظائفها حيث صرنا ننتمي لمؤسسات حديثة بممارسات وتصورات تقليدية تجعل من المجتمع ينتج الازدواجية وفي ظل حالات تنامي الأعطاب الاجتماعية وانتقالنا من الجمعي الى الفردي وبروز قيم وانحسار أخرى لا بد أن نقر بوجود أزمة قيم وقيم للأزمة، قيم صارت ميكانيكية بعلاقات مفرغة من المحتوى الإنساني.
فعندما ننتقد شيئا فإننا نضعه أمام حقيقته، والانصات لصوت العلم مطلب أساس ولو أنه “حقيقة مزعجة”

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.